رب اني لما انزلت الي من خير فقير


رب اني لما انزلت الي من خير فقير

شرح دعاء ‘رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ‘


رب اني لما انزلت الي من خير فقير

                                                     رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(۱).

هذه الدعوة ضمن دعوات ذكرها المؤلف حفظه اللَّه تعالى ووفقه، من دعوات موسى عليه السلام الذي كثر عنها الحديث في كتاب ربنا دلالة على أهميتها، والدعوة إلى العناية بها، فهماً، وعلماً، وسؤالاً، ومطلباً، ففيها من الخيرات والمنافع الكثيرة التي تعود على العبد بما يصلح أموره، وأحواله في الدنيا، ومرجعه في الآخرة .

فقد ذكر المفسرون أن موسى عليه السلام لما جهد في السفر، وانقطع عن الأهل، بلغ به الجوع كل مبلغ، ولم يكن معه من الطعام ما يأكله، فعرف أين المقصد، وأين المخرج، فعرف أن المفرّ إلى ربه تبارك وتعالى الذي اعتنى به منذ صغره إلى هذه الحال، عرف ربه في الرخاء، فعرفه في الشدة، فتوسّل إليه بألطف الوسائل.

قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾: ذكر حاله إلى ربه تبارك وتعالى بألطف الكلمات والعبارات، المتضمن لطلب إنزال اللَّه الخيرات، وهذا من أبلغ الوسائل، وألطفها لما فيها من حسن الأدب وكمال الطلب .

و كأني بحاله يقول: يا ربي، إني لما أنزلت إليَّ من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك .

((وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال))(۲).

((فإن اللَّه تعالى كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسّل إليه بضعفه، وعجزه، وفقره، و عدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه، لما في ذلك من إظهار التضرع و المسكنة، والافتقار للَّه عز وجل الذي هو حقيقة كل عبد))(۳).

فقد تضمّن كتاب ربنا أنواعاً في كيفية الطلب والدعاء، فتارة يكون الدعاء بصيغة الطلب: ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾(۴).

وتارة يكون بصيغة الخبر المتضمن للطلب مثل هذا الدعاء، وكدعاء زكريا: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾(۵).

وكقوله تعالى عن أيوب: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(۶)، والعبد الصالح السالك طريق الأنبياء والمرسلين يحسن به الاقتداء بهم، والأخذ بسننهم في الدعاء )أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ((۷).

فيجمع العبد بين هذه التوسلات العلية في سؤاله ورغبته:

وإذا كان موسى عليه السلام قد سأل اللَّه الخير بصيغة الحال، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل اللَّه عز وجل الخير بصيغة الطلب، كما في الحديث العظيم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم  لأُمِّنا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين قال لها: ((عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ…، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ))، وفي رواية: ((عليك بالجوامع الكوامل)) (۸).

تضمنت هذه الدعوة المباركة جملاً من الفوائد منها:

۱ – أن الشكوى إلى اللَّه تعالى لا تنافي الصبر، بل من كمال الإيمان باللَّه تعالى، والرضا بقدره .

۲ – على الداعي أن يتوسل إلى اللَّه بأنواع التوسل المشروعة، وإن ذلك من كمال العبودية التي يحبها اللَّه عز وجل .

۳ – مشروعية الاستعاذة من الفقر، وأنها سُنَّة الأنبياء والمرسلين، فقد كان من دعاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ((اللّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ))(۹).

(۱) سورة القصص، الآية: ۲۴٫

(۲)  تفسير ابن سعدي، ۶ ۱۶٫

(۳)  تفسير اللطيف المنان، ص ۱۳۲٫

(۴) سورة المؤمنون، الآية: ۱۱۸٫

(۵) سورة مريم، الآية: ۴٫

(۶) سورة الأنبياء، الآية ۸۳٫

(۷) سورة الأنعام، الآية: ۹۰٫

(۸) سنن ابن ماجه، برقم ۳۸۴۶، مسند أحمد، برقم ۲۵۱۳۷، ورقم ۲۵۱۳۸، واللفظ له، الأدب المفرد للبخاري، وقد تقدم تخريجه في الدعاء رقم ۲۹، مع التعليق عليه.

(۹) أخرجه أبو داود، برقم ۱۵۴۴،والنسائي، برقم ۵۴۷۵، وسيأتي تخريجه وشرحه، في الدعاء رقم ۹۴٫

تضمين معنى قول الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام : ( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) في دعاء قضاء الحاجات.

۲۴۵۰۱۳

تاريخ النشر : ۳۱-۰۷-۲۰۱۶

المشاهدات : ۳۸۳۸۴۸

السؤال

ما تفسير الآية ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ؟ وهل يجوز دمجها مع أدعية قضاء الحاجة ؟

الجواب

الحمد لله.

يقول الله تعالى عن موسى عليه السلام لما فرّ من فرعون وقومه، ووصل إلى مدين: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) القصص۲۳، ۲۴ . (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) أي: قاصدا بوجهه مدين ، وهو جنوبي فلسطين ، حيث لا ملك لفرعون، (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي: وسط الطريق المختصر، الموصل إليها بسهولة ورفق ، فهداه الله سواء السبيل ، فوصل إلى مدين . ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) مواشيهم ، وكانوا أهل ماشية كثيرة (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي: دون تلك الأمة (امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) غنمَهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال ، وبخلهم وعدم مروءتهم عن السقي لهما. (قَالَ) لهما موسى (مَا خَطْبُكُمَا) أي: ما شأنكما بهذه الحالة، (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم، فإذا خلا لنا الجو سقينا، (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي: لا قوة له على السقي، فليس فينا قوة، نقتدر بها، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء. فرقّ لهما موسى عليه السلام ورحمهما (فَسَقَى لَهُمَا) غير طالب منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه الله تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حر، وسط النهار، بدليل قوله: (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) مستريحا لتلك الظلال بعد التعب. (فَقَالَ) في تلك الحالة، مسترزقا ربه: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله ؛ والسؤال بالحال : أبلغ من السؤال بلسان المقال انتهى . تفسير السعدي (ص ۶۱۴) . وقال ابن عاشور رحمه الله : لَمَّا اسْتَرَاحَ مِنْ مَشَقَّةِ الْمَتْحِ وَالسَّقْيِ لِمَاشِيَةِ الْمَرْأَتَيْنِ ، وَالِاقْتِحَامِ بِهَا فِي عَدَدِ الرِّعَاءِ الْعَدِيدِ، وَوَجَدَ بَرْدَ الظِّلِّ ، تَذَكَّرَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ نِعَمًا سَابِقَةً أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِ ، مِنْ نَجَاتِهِ مِنَ الْقَتْلِ ، وَإِيتَائِهِ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ تَبِعَةِ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِلَى أَرْضٍ مَعْمُورَةٍ بِأُمَّةٍ عَظِيمَةٍ ، بَعْدَ أَنْ قَطَعَ فَيَافِيَ وَمَفَازَاتٍ تَذَكَّرَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، وَهُوَ فِي نِعْمَةِ بَرْدِ الظِّلِّ وَالرَّاحَةِ مِنَ التَّعَبِ، فَجَاءَ بِجُمْلَةٍ جَامِعَةٍ لِلشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَهِيَ: (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). وَالْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ، فَقَوْلُهُ : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) : شُكْرٌ عَلَى نِعَمٍ سَلَفَتْ. وَقَوْلُهُ : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) : ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ مُعْطِي الْخَيْرِ. وَأَحْسَنُ خَيْرٍ لِلْغَرِيبِ : وُجُودُ مَأْوًى لَهُ يَطْعَمُ فِيهِ وَيَبِيتُ، وَزَوْجَةٌ يَأْنَسُ إِلَيْهَا وَيَسْكُنُ. فَكَانَ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ ، بِأَنْ أَلْهَمَ شُعَيْبًا أَنْ يُرْسِلَ وَرَاءَهُ ، لِيُنْزِلَهُ عِنْدَهُ، وَيُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ، كَمَا أَشْعَرَتْ بِذَلِكَ فَاءُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) . انتهى مختصرا من التحرير والتنوير (۲۰ ۱۰۲) . فهذا منه عليه السلام سؤال بالحال، واكتفاء بإظهار حاله من الفقر والحاجة بين يدي ربه ، عن التصريح بالسؤال . وهذا كقول أيوب عليه السلام : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). وقول يونس عليه السلام : ( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هَذَا وَصْفٌ لِحَالِهِ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ اللَّهِ إنْزَالَ الْخَيْرِ إلَيْهِ انتهى من مجموع الفتاوى (۱۰ ۲۴۴) . وقال ابن كثير رحمه الله: قَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ وَاحْتِيَاجِهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) انتهى من تفسير ابن كثير (۱ ۱۳۶) وهذا إنما يكون من تضرع العبد ، وإظهار ذله ومسكنته بين يدي ربه ، يعلم أنه فقير إليه ، وأنه هو القادر على أن يغنيه بفضله عمن سواه ، فيتوسل إليه بفقره إليه ، وكمال غنى ربه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ : هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ. وَذَلِكَ أي : السؤال بالمقال أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ انتهى من مجموع الفتاوى (۱۰ ۲۴۶) .

ولا بأس أن يدعو العبد المسلم بذلك في قضاء حاجاته ؛ لأنه توسل إلى الله تعالى بالفقر إليه ، وهو وصف ذاتي للعبد ، وبغنى ربه ، وهو وصف ذاتي للرب ، فهذا التوسل يناسب الرغبة فيما عند الله من الخير والبركة . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله النوع الخامس – أي: من أنواع التوسل المشروع-: أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله؛ يعني أن الداعي يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله وما هو عليه من الحاجة، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله أن ينزل إليه الخير انتهى من مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (۲ ۳۳۷) . والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

رب اني لما انزلت الي من خير فقير